الإضاءة والممثل!

هل سمعت من قبل مقولة «التصوير هو فن الرسم بالضوء؟» هذا التعبير قديم للغاية منذ محاولات التصوير الأولى، حين لم يكن هناك معنى للصور غير الرسم، فكان التفكير الأقرب هو أن النور قد يكون بديلًا للألوان، ومن هنا انطلقت مسيرة المصورين الفوتوغرافيين في اكتشاف ماهية الضوء، كيف نتحكم به، كيف نمنحه ألوانًا، ومن الفوتوغرافيا إلى السينما حيث يبدأ عصر النجوم، معشوقي الأضواء كما تطلق عليهم الصحافة، ولكن ما هو الحقيقي حول الأضواء إذًا؟

رحلة في تاريخ الإضاءة السينمائية

هيا نعود في رحلة إلى ثلاثينيات القرن الماضي حيث العصر المُتوهج للصور في هوليوود، وأشهر صور نجومها بتأثير خاص وتكوين إضاءة شديد الشُهرة اسمه (إضاءة الفراشة).

كل هذه الصور من أرشيف المصور جورج هاريل George Hurell، والذي يعتقد البعض بأنه الأب الروحي للتصوير الفوتوغرافي لنجوم هوليوود، والذي احترف استخدام إضاءة الفراشة، ومن بين تلك الصور نعثر على صورة تعود إلى ثلاثينيات القرن العاشرين، لـ مارلين ديتريتش Marlene Dietrich وهي ممثلة ألمانية مغمورة وصامتة، تتحول إلى إحدى نجمات هوليوود، ويُصاحب ذلك الكثير من الصور بتأثير الفراشة، فتصبح واجهة لتلك الإضاءة الحديثة، والتي تتحول فيما بعد إلى علامة مُميزة لكل النجوم، حيث يحرص الجميع على أخذ صورة بإضاءة الفراشة، حيث الظل تحت الأنف والإضاءة عُلوية مائلة وكأن ملامحهم ناعمة ومُتوهجة في الوقت ذاته!

ولكن إضاءة الفراشة التي كانت جزءًا من السمة الرئيسية للصور الفوتوغرافية بدأت تدخل عالم السينما، تحت تأثير رغبة هؤلاء النجوم، والتي بدأ يظهر أثرها في حقبة الأربعينيات، وهو ما كان دليلًا على سطوة وقوة وتأثير النجمات والنجوم على عملية إنتاج الأفلام -نعم الأمر قديم للغاية- فقوة تأثيرهم كانت تفوق أحيانًا دور المخرج، ولا يُضاهيها سوى قوة المنتج واستوديوهات الإنتاج الشهيرة في هوليوود.

ولكن ماذا كان يريد مُخرجي الأفلام؟

تحدثنا سابقًا في «مقالة الهلع والسينما» عن دور الإضاءة في منح أفلام الإثارة والهلع أبعادًا أكبر عن طريق شحذ العين من أجل التحديق بشكل أكبر وسبر أغوار الظلام والإضاءة المُظلمة في تلك الأفلام، وهو ما يعني أن إضاءة الأفلام ليست مجرد رغبة نجوم الأفلام، وإنما جزءًا من درامية الأحداث ومنحها الإيحاء المناسب لتقديم الحدث في ظروفه المناسبة، وهو ما ينطبق على كل أنواع الأفلام، وهذا الإيحاء دائمًا ما يلعب على اللا وعي الخاص بالمشاهدة، أو جمالية الصورة حسب الضرورة الخاصة بالإضاءة ودورها الدرامي.

السينمات الإقليمية، واستخدام الإضاءة

في فيلم (الناصر صلاح الدين) للمخرج المصري العالمي يوسف شاهين، يوجد مشهد أيقوني يعرض المعسكرين العربي والصليبي، فعلى الرغم من عدم وجود صلة مكانية بين المعسكرين، إلا أن الاثنين اشتركا في وجود محاكمة عن الخيانة في آن واحد، ولهذا قرر شاهين في فيلمه بالجمع بين المُعسكرين، ومنح التركيز لكل منهم على حدة عن طريق الإضاءة كما هو ظاهر بالصور.

إلى أن يحدث الاشتباك ويبدأ الحديث حول المبادئ، وهنا يعزل شاهين شخصياته عن مُحيطها عبر الإضاءة أيضًا، ليتحدث أحمد مظهر (في دور صلاح الدين) والنور يغطيه بشكل كامل عن مُحيطه المُظلم، في مواجهة محمود المليجي (في دور كونراد) الذي يتشارك نفس الوضع، فعلى الرغم من عدم اشتراكهما في نفس الموقع، لكن الحديث كان حول المبادئ والاختلاف بين الشخصيتين كان أشبه بنوع من المناظرات، وهنا كان دور الإضاءة التي عزلت تلك الشخصيات من مواقعها إلى شخصيات تقدم وجهة نظرها فقط، وهذا هو التأثير الدرامي على الأحداث، وهو ما ينشأ عنه العلاقة بين الممثل والإضاءة التي تمنحه الضوء الأخضر للحديث والتعبير عن شخصيته في مواجهة الآخر، وهي مسألة شعورية أكثر منها مادية، وهذه هو طريقة السينما والإضاءة في الإقناع.


قد يبدو الأمر مسرحيًا بشكل كبير، ولكن الإضاءة السينمائية التي تخدم درامية الأحداث، مختلفة تمامًا عن الإضاءة التي أرادتها نجمات هوليوود، وهي مختلفة تمامًا عن الفوتوغرافيا، فإضاءة البورتريهات التي كانت تحبها النجمات تجعلها دائمًا متوهجة وساحرة وجميلة، وهو ما لا يمكن مع أحداث الأفلام الجادة، فبعض الأحيان يحتاج الممثل إلى أن يبدو بشكل مُزرٍ أو دميم، حتى يعبر عن وضعه وشعوره الطبيغي، ولهذا فالإضاءة ليست جمالية فقط، وإنما تعبيرية بشكل كبير.

ففي هذا التكوين للكادر تُدرك موازين القوى، من يواجه من، حتى لو كانوا وسط حشد من الناس، ولكن هذا الحشد يختفي وسط الظلام، ويبدو فقط أطراف الصراع تحت الضوء الخافت الذي يدعو إلى الترقب ويشحذ عقل المشاهد تجاه الصراع.

تجارب أكبر تجاه الإضاءة

الإضاءة ليست أمرًا جماليًا فقط، وإنما طريقة تعبير، كل إضاءة ولها تأثير درامي على وجه وتعابير الممثل، فهنا حزين ولكن الإضاءة براقة، فيبدو حزينًا بشكل منفرد، وفي حين آخر هو حزين وكل ما حوله مُظلم فهذا تعبير عام عن كآبة أجواء الفيلم، وبين هذا وذاك اختلاف كبير نابع عن توزيع الإضاءة فقط، وهو بحر واسع من الاختلافات وطرق توزيع الإضاءة المختلفة، وكل منها يمكن أن يصنع ممثلا حزينًا، سعيدًا، متحمسًا، خائفًا، غريبًا، أو حتى غامضًا.

وبشكل بسيط فالإضاءة الجانبية، تمنح جانبًا مضيئًا وآخر مُظلمًا، وهو ما يمنح بشكل بسيط جانبًا غامضًا.

أما الإضاءة العلوية فتُظهر بعض الملامح وتُخفي بعضها، مُبقية الظلال بالأسفل، ومنها تفرعت توزيع إضاءة الفراشة Butterfly lighting التي قدمناها مُبكرًا.

إضاءة Backlight

والإضاءة الخلفية تمنح الوجه والجسد ظلالًا قوية وعزلا عن ما هو مُضيء في الخلف، فيمكن أن يمنح الإنسان نوعًا من الغموض التام، أو الضعف في بعض الأحيان الأخرى، وبين هذا وذاك ملامح خفية.

الإضاءة المباشرة تمنح الممثل وضوحًا كاملًا لا شيء خفي، لا شيء سوى وجه متوهج بتفاصيله، ويكون على الممثل أن يمنح وجهه التعبيرات المُلائمة.

هذا شكل بسيط وواضح للإضاءة، ولكن ما لا تعرفه أن الإضاءة ليست الاتجاه فقط، وإنما التوزيع، فالتوزيع هو جوهر تكوين المشاهد والكادرات، أين تجد الضوء وما الغرض منه، ففي المسلسلات الاجتماعية تجد كل شيء واضح، فهو دليل على الواقعية وعدم وجود أبعاد أكبر مما تراه، فقط الدراما الاجتماعية الواقعة بين الشخصيات، كما في مسلسل friends كمثال.

أما في فيلم الأب الروحي The Godfather فالفيلم يحتاج في سرده إلى تلك الإضاءة الغامضة التي تمنح أبعادًا أعمق لشخصياته، وهي قبل كل ذلك مُبررة في سياقها، فغرفة مكتب رجل عصابات لا يمكن لها أن تبدو بنفس إضاءة غرفة معيشة لبعض الأصدقاء الأمريكان في منتصف التسعينيات.

The Godfather

وهنا ننتقل إلى أن حتى الإضاءة يجب أن يكون لها مُسببًا منطقيًا لدراميتها، ومدى صحة تواجدها في وقت ومكان وقوع الأحداث.

أشكال ثورية للإضاءة

هل شاهدت أسطورة المخرج ستانلي كوبريك Stanley Kubrick «فيلم باري ليندون Barry Lyndon» حيث قدم حكاية رائعة بصريًا عن طريق الإضاءة الطبيعية طوال الفيلم، بألوان جذابة واستخدام أمثل للمصادر الطبيعية لللإضاءة، بما يتناسب مع أحداث وظروف الفيلم، خادمة لدرامية الأحداث، ومؤثرة في تعميق الصورة الذهنية للا وعي عن الحقبة الزمكانية التي يحدث بها الفيلم.

استخدام الشموع في الإضاءة الداخلية الليلية
استخدام النوافذ المفتوحة

فعملية صناعة هذا الفيلم قدمت مجموعة من الحلول الثورية في استخدام الإضاءة الطبيعية، ابنة بيئتها لتكون جزءًا من عملية السرد الفني للفيلم، والأهم من ذلك أنها مُبررة دراميًا، إضاءة حقيقية ولكن تحتاج إلى توزيع صحيح، وهو ما نجح به ستانلي كوبريك وأنتج هذه الإضاءة الساحرة.

ولكن ماذا عن الإضاءة الصناعية؟

على النقيض من تجربة الإضاءة الطبيعية في «فيلم Barry Lyndon» يوجد جانب ثوري يعتمد على الإضاءة الصناعية وتوجيهها لونيًا بأشكال مختلفة يتدخل بها التوجيه الفني للفيلم Art Direction، وأيضًا مُبررة لأسباب درامية دائمًا.

على سبيل المثال في «أفلام الـ cyberpunk»، توجد مساحة واسعة من استخدام الإضاءة الصناعية، بل بشكل فج أحيانًا ولكنه حقيقي بطبيعته.

Blade Runner 2049

فالإضاءة الصناعية هنا ابنة منطقهًا، وهي جزء من توزيع أوسع لإضاءة اللقطات، وهو نمط يختلف عن إضاءة الأحداث العادية / الواقعية، وهو ما يمنح تلك الأفلام تكاملًا أوسع في إضاءة المشاهد وتكوينها، فالإضاءة والتلوين متكاملين في تصميمات مشهدية أكثر منها لقطات مُصورة، وهو نتاج لتطور تكنولوجي ضخم في صناعة الأفلام والمؤثرات البصرية.

ديزي ريدلي

أما في الأفلام الأقدم كما في أفلام الخيال العلمي Sci-fi، كان اللجوء إلى الإضاءة فقط، فالإضاءة دائمًا ما كانت مُبهرة، فنيًا وتقنيًا مثل أفلام الفضائيين وحروب الكواكب، وتلعب دورًا دراميًا أيضًا في مجرى الأحداث، ونرى انعكاسها دائمًا على وجوه النجوم.

العلاقة جدلية بين الإضاءة والممثل

The Martian

تبقى العلاقة بين النجم وإضاءته واقعة تحت تأثير المجد والغاية الدرامية، فحاليًا مازالت العلاقة متوترة بين النجوم والإضاءة رغبة في وجود مجد وبهاء على وجوههم حين يسيرون على السجاد الأحمر في المهرجانات، ولكن طريق المهرجانات لم يكن أبدًا مفروشًا بالورود إلا إلى هؤلاء النجوم الذين يترجلون من صهوة جوادهم ويعفروا وجوههم بالرمال من أجل لحظة مجد سينمائي وأداء مُخلص بلغة السينما، وهي نقطة ربما تفتق ذهن السينمات العالمية إليها، ولكن في واقعنا السينمائي الإقليمي، ربما مازال النجوم واقعون تحت إغراءات الجمال الزائف والإضاءة السليمة على وجوههم، ولهم تأثيرهم بواقع النجومية على الأفلام السينمائية ورفضهم لأنواع أخرى من الإضاءة، قد تقودهم إلى إضاءة المجد.

انتظرونا في مقالات أكثر حول الإضاءة بشكل تقني

error: Content is protected !!
حقيبة الاستثمار0
حقيبتك فاضية.. اختار برامجك وأبدأ رحلتك السينمائية =)
0