الإيهام والجدار الرابع

أكاديمية وايتلنز
هل شاهدتم إميلي بولان؟

إنها فتاة فرنسية تتحدث إلى لا أحد داخل الفيلم، ولكنها تتحدث إلينا عبر الشاشة، تحكي لنا ما يدور في عقلها وتحكي لنا حكايتها وتشاركنا رأيها أيضًا، وهذا هو سبب الحب الحقيقي لهذا الفيلم، ولكن هل كانت الوحيدة التي تحدثت لنا من عالم الفيلم الآخر؟

يوجد أيضًا وودي آلن Woody Allen، ممثل ومُخرج كثيرًا ما يترك عالم الفيلم ليتحدث إلى الكاميرا، أو بمعنى أصح يقوم بكسر الجدار الرابع ليتحدث إلينا، نحن الجمهور، من خلال الشاشة، ليعبر أحيانًا عن آرائه أو ما يدور في عقله داخل الفيلم، وكثيرًا ما تكون تعليقاته مشابهة لتعليقاتنا في مواقف مشابهة.

في هذا المشهد من فيلم Annie Hall يتأفف وودي آلن من تعليقات جاره في صف انتظار السينما، ويعبر عن غضبه لنا، وحين ينضم هذا الجار ويبدأ في المناقشة، ولا يكتفي المخرج woody Allen بمناقشته أمام الجمهور حول الفيلسوف الشهير مارشال ماكلوين Marshall McLuhan، ولكن بشكل ساخر وكوميدي غير متوقع يقوم بتقديم الفيلسوف بنفسه إلى الشاشة والذي يعبر أن هذا الجار المتحذلق لا يعرف عنه شيئًا، ويقوم وودي آلن باستعراض أخير أمام المشاهدين قائلا:

“If life were only like this”
“تخيل لو أن الحياة كانت بهذه البساطة”

هذا المشهد ليس الآول أو الأخير للمخرج والممثل الأمريكي وودي آلن، ولم يكن من ابتكاره على أي حال، ولكن هذا الفيلم بالتحديد قدم العديد من الحيل السردية التي امتازت بكسر الحائط الرابع، مثل كتابة أفكاره الداخلية في هيئة ترجمة على الشاشة، وتقسيم الصورة وغيرها من الحيل التي تكسر حاجز الإيهام هنا، وتنبه المشاهدين أننا نشاهد فيلمًا فلا داعي للإغراق والتماهي مع أحداثه، ولكن يجب علينا أن نفكر.

حسنًا، ما هو الجدار الرابع والإيهام؟

يُنسب ابتكار هذا المصطلح إلى الفيلسوف والناقد المسرحي دنيس ديدرو Denis Diderot وارتبطت بشكل كبير بموجة المسرح الواقعي في أوروبا، التي قامت على أن الممثلين لا يمكنهم ملاحظة الجمهور ويفصلهم جدار وهمي يعزلهم حتى تتحقق عملية التماهي ويقوم الممثلون بأداء أدوارهم بكل إتقان، مُتلبسين شخصياتهم وأماكنهم على المسرح، وتقديم صراعات القصة بتفاعل كبير، حتى يتحقق للجمهور المتعة والتماهي مع الأحداث حتى القلق والتوتر أو الإثارة والانفعال، وربما يرتبط بعضهم عاطفيًا مع الشخصيات التي يتم تقديمها.

وهو ببساطة اتفاق ضمني بين المشاهد والممثل يحقق لهم المتعة المرجوة من المشاهدة والتماهي مع الأحداث، إن كان هذا هو المطلوب!

لماذا نكسر الجدار الرائع أحيانًا؟

هل شاهدت من قبل فناني «المايم Mime» وهم يلمسون جدرانًا غير حقيقية؟ إنها ليست خدعة وليست أكثر من فنًا أدائيًا، ومتعتها الحقيقية في اللحظة التي يكسر بها المؤدي هذا الجدار غير المرئي ليلتقط ورقة أو يسقط على وجهه أو أيًا من هذه الحركات الكوميدية.

«المايم» فن التمثيل الصامت

ينطبق الأمر ذاته على كسر هذا الجدار، إنه يُنبهك ويُعيدك إلى أرض الواقع فجأة، وتستعيد شعورك كمشاهد للمسرحية أو الفيلم أو أيا كان نوع العرض، وهو ما أسس لوجود (المسرح الملحمي) وهي نظرية ومنهج الشاعر والمسرحي الألماني برتولت بريخت Bertolt Brecht في مواجهة الواقعية والمسرح الأرسطي.

بيرتولت بريشت
ماذا نعرف عن المسرح الأرسطي؟

لا يعرف العديد من الناس أن النمط الذي يقدم الحكايات والقصص يعود إلى القرن الرابع قبل الميلاد، وتحديدًا إلى الفيلسوف والشاعر الإغريقي أرسطو Ἀριστοτέλης الذي ألف كتاب فن الشعر. 

هذا الكتاب أسس النظرية الأدبية التي قدمت مفهوم الدراما إلى عالمنا، فالقصص الشعرية تنقسم إما إلى ملهاة أو مأساة «التراجيديا والكوميديا» وعلى نفس النسق أصبحنا نحدد نوع القصص سواء يتم تقديمها على خشبة المسرح أو على شاشات السينما أو حتى في الكتب، وهي تختلف عن المفاهيم الدارجة لهذه المصطلحات، فالكوميديا هنا ليست الضحك والمواقف الطريفة، وإنما يُقصد بها القصص ذات النهايات السعيدة، وبالطبع فالمأساة هي القصص ذات النهايات الحزينة.

وماذا عن المسرح الملحمي؟

المسرح الملحمي يكسر كل حواجز الإيهام، يطلب من المشاهد أن يُعمل عقله لا مشاعره، يمنحك فرصة التحليل والنقد والتفكير في الواقع.

هل تتذكر مداخلة وودي آلن: “تخيل لو أن الحياة كانت بهذه البساطة”؟

إنه نقد لاذع يحمل بعض السخرية من الواقع، وهو يتناول موضوعًا بعينه في إطار أحداث الفيلم، ويُنبه المشاهد إلى المشكلة التي يقصدها، وهو غاية وجوهر منهج المسرح الملحمي للشاعر بريخت، وليس المنهج الكامل بالطبع، فأغلب أحداث الفيلم مازالت تعتمد على أساليب أرسطية في سردها والكثير من التماهي مع الشخصيات وتاريخها.

في المنهج الملحمي لا نعتمد على شخصيات حقيقية أو مؤثرة، فالبطل ليس هو الشخصية الرئيسية وإنما التأمل، والمشاهد لا يجب أن يتفاعل مع الأحداث وإنما يجب أن يتأمل ويحلل ويُبدي رأيه فيما يشاهده، ومنها يجب أن يكون رأيًا ويتفاعل مع رأي صاحب المسرحية، وهو ما أسس هذا المنهج الذي يكسر الجدار الرابع، ويمنح المشاهد فرصة أن يصل إلى ما هو أعمق من الأحداث الدائرة أو الحوارات بين الممثلين، ليصل إلى ما يدور بعقولهم أو ما يحيط بهم من أزمات، فقد تخصص هذا المسرح في مناقشة قضايا الحروب والأزمات الاجتماعية والاقتصادية، مؤديًا دورًا توعويًا تجاه العالم والجمهور.

السينما والإيهام!

كنا قد قدمنا في مقالة (الهلع والسينما) مدخلا إلى معرفة الأسس العلمية التي قام عليها الإيهام ومنها نظرية بقاء الصورة -برجاء مراجعة المقالة السابقة للمزيد من المعلومات- وتعرفنا على أن السينما حرصت منذ بدايتها على تعزيز عملية الإيهام حتى يتمتع المشاهدون بأكبر قدر من التأثر والتعاطف مع الشخصيات، ولكن نعود إلى سؤال لماذا نقوم بكسر حاجز الإيهام أحيانًا؟

الإجابة في أحيان كثيرة هي المتعة، أو منح المشاهد اليد العُليا وكأن الأمر يعود إيه مرة أخرى، أو ربما تنبيهه إن كان قد شعر بالملل، ولكن يبقى هذا المنهج دائمُا محدودًا في عالم الأفلام عن المسرح، فالأفلام شئنا أو أبينا تدفعك إلى التماهي معها، وتختلف عن المسرح الذي تشاهد شخصياته على خشبة أمامك، أما في عالم الفيلم فهم ليسوا حاضرين، يمكنك أن تشاهد الفيلم عدة مرات ويتكرر بها في كل مرة نفس المشاهد، ولكن دائمًا ما توجد تجارب جديدة.

منذ حوالي 3 سنوات قامت شركة Netflix بإطلاق حلقة خاصة من مسلسل Black Mirror تحت اسم bandersnatch وفي هذه الحلقة على عكس كل حلقات المسلسل أو الأفلام عمومًا، فأنت يا عزيزي المشاهد من تقوم باختيار مسار الأحداث على طريقة ألعاب الفيديو، أنت من يقرر الفعل وعلى أساسه تتحرك الأحداث التالية، أنت لم تعد مجرد مشاهدًا للأحداث، أنت جزءًا منها الآن.

قام العديد من النقاد باعتبار هذه الحلقة جزءًا من ألعاب الفيديو وليست حلقة سينمائية/درامية، ولكن دائمًا ما تم وصم كل الصيحات الجديدة في عالم الدراما بأنها لا تنتمي لها، وبعد ذلك يتم الاعتراف بها وتقديرها.

هل نودع الدراما التقليدية؟

لا داعي للقلق، لن تنتزع الألعاب الالكترونية محل الأفلام الدرامية، ولكنها قد تؤثر عليها وقد نرى أشكالًا جديدة من الأفلام التي لا تكسر الإيهام فقط بكلمة إلى الجمهور أو تقسيم الشاشة إلى ثلاثة أرباع، وإن كان هذا أمرًا مسليًا للغاية، ولكن يبقى المنهج الدرامي الأرسطي قائمًا، فمازالت الحاجة لوجود مغامرات حسية وفنية وتفاعلية مع شخصيات حية تواجه أحداثًا تؤثر بها ونتأثر معها قائمة، وتُحركها الدوافع النفسية البشرية في صناعتها أو استقبالها، فالإيهام أحيانا هو احتياج نفسي، أما الأفلام الملحمية هي احتياج عقلي، للتفكير والتحليل وصياغة أفلام جديدة تناقش قضايا كل يوم، وتكتشف طرقًا أكثر حداثية في تقديمها.

error: Content is protected !!
حقيبة الاستثمار0
حقيبتك فاضية.. اختار برامجك وأبدأ رحلتك السينمائية =)
0