هيا نذهب في رحلة إلى أوائل أيام التاريخ على جدران الكهوف والجبال توجد رسومات عن بشر وحيوانات، حيث قام بعض البشر الأوائل برسم صور من حياتهم اليومية، بشر وحيوانات وطبيعة، حين لم تكن هناك وسائل ترفيه مثل التي في يومنا، وحين كانت الحياة اليومية مغامرة كُبرى للنجاة والاستمرار، وجد أحدهم فرصة لنفسه فقط ليقوم بتوثيق هذه الحياة على الجدران، وينقل لنا صورة في غاية البساطة، ولكنها تشهد على رغبة البشر منذ بدأ التاريخ في حفظ تاريخهم وذكرياتهم.
جذور الفن
من هنا يبدأ فن الرسم تاريخيًا ربما ينقل لنا الواقع في عصره، ولكن مع التطور أصبح يصور الحياة اليومية ومن ثم ينتظر إنسان في أقصى الشمال صورة مرسومة من الحياة اليومية في الجنوب أو الشرق، فقديمًا لم يكن الجميع قادرًا على السفر والترحال واكتشاف العالم، ولكن من قام بذلك حرص على توثيقه بالرسم أو نقل الرسومات من موطنها الأصلي، وهذه إحدى الطرق الأولى في نقل صورة العالم، ومنها نكتشف أن هذا الفن في بدايته كان مهتمًا بنقل الحياة اليومية، أو ما نطلق عليه اليوم “التوثيق”.
ولكن هل كان الرسم هو الطريقة المثالية لهذا التوثيق؟
الإجابة قد تظلم هذه العصور، ولكن الرسم يعتمد على ذاكرة الفنان وأدواته ولزماته، ولكل رسام بصمته الخاصة وألوانه التي يفضلها، فمهما كانت حرفيته في نقل صور الواقع، توجد بعض العوامل التي تؤثر على هذه الرسومات، هذا إن تغاضينا بالطبع عن الأعمال الفنية التي يقوم فيها الرسام برسم صور لا تمت للتوثيق بصلة، وإنما بعضها يأتي من قريحته الفنية لأماكن وأمور لم نراها من قبل.
ماذا عن التصوير الضوئي؟
هذه واحدة من أقدم 3 صور ضوئية معروفة في التاريخ، ويعود تاريخها إلى العام 1825، نعم نعرف أنها تبدو كما لو كانت مرسومة، وهذا لأنها مطبوعة بطريقة حبر على ورق ولكن لوح الطباعة المستخدم في صنعها تم إنشائه بشكل فوتوغرافي بواسطة عملية التصوير الشمسي التي ابتكرها نيسيفور نييبس Nicéphore Niépce وهي الهليوغرافيا.
وعلى عكس المعتاد من الرسم على الجدران أو الأوراق، كان التصوير الضوئي ينقل صورة طبق الأصل للأماكن والأحداث وللمناظر الطبيعية، وهو ما حرر كاهل الرسم من مهمة التوثيق الصعبة، وأصبح بإمكان مصور من ألمانيا أو فرنسا أن يسافر إلى آسيا لتوثيق الحياة اليومية بصورة أو مجموعة من الصور، ويعود إلى وطنه بصورة من بلاد بعيدة، والأهم من ذلك كله، هو مدى طبيعية هذه الصورة للتوثيق.
الفنون تكمل بعضها البعض
توجد أمامك صورتين لجبل فوجي في اليابان، واحدة منها مرسومة والاُخرى مُصورة، يمكن بالطبع أن تفضل واحدة على الأخرى، ولكن الأكيد أن الصورة الضوئية تقوم بعملية التوثيق بشكل مثالي، في حين أن الرسمة قد تنقل لك مزيد من الجوانب الفنية لمكان حقيقي، وهو ما نُسميه تكامل الفنون.
كل فن جديد أو تكنولوجيا حديثة ترفع عن كاهل ما قبلها الكثير من الحمول، وتمنحه فرصة الإبداع أو التطور، طالما أن الوسيلة الجديدة أصبحت قادرة على القيام بعملية التوثيق بشكل مثالي، وهو ما ينقلنا إلى ما هو أحدث من التصوير الفوتوغرافي، إنها السينما، أو بشكل أدق الصور المتحركة.
السينما تُغير شكل التوثيق!
في أول أفلام الاخوة لوميير يقدمون مشهدًا يوميًا لحياة العمال وقت الخروج من مصنعهم في فرنسا، ليبدأ عهد جديد تقوم فيه عروض جماعية لهذا التوثيق الجديد، الذي لا يكتفي بتقديم رسومات مُصمتة أو صور ثابتة، ولكن يقدم تفاعل إنساني من خلال هذا التوثيق، يحمل ضحكات وإنفعالات والعديد من الجوانب الإنسانية.
أصبحت السينما/الصور المتحركة قادرة على نقل صور حية من كل مكان، بالطريقة التي تمنح أي إنسان في العالم القدرة على الوصول إليها من خلال صالات السينما في القرن الماضي، أو من خلال الهواتف المحمولة في الوقت الحالي، فعملية التوثيق أصبحت بسيطة، يقوم بها الجميع كل يوم دون دراية، حتى أن السينما التي هي موضع النقاش وتطوير عملية التوثيق في هذا الجزء، بالفعل تحررت، وأصبحت تقدم أفلامًا للخيال العلمي والعوالم غير الحقيقية كما في العديد من المسلسلات والأفلام مثل حرب النجوم Star Wars ولعبة العروش Game Of Thrones وهاري بوتر Harry Potter والسمكة الكبيرة Big Fish.
دور الخيال في التوثيق
ولكن يبقى دائمًا احتياج للتوثيق من خلال كل الفنون على تنوعها، وهو ما يعني لمسة فنية على هذا التوثيق، لأن الفن يختلف عن التأريخ، دائمًا ما توجد بصمة للفنان في صورته / لوحته / فيلمه السينمائي، أو حتى مقطعه المصور على الإنترنت، وهذه البصمة قد تكون زاوية مختلفة لهذه اللقطة، أو لحظة معينة ينتظرها المصور، أو لمحة شاعرية ترسمها يد الفنان، وقد يأتي مصمم ليرسم مدينة في خياله، ويقوم سينمائي بتصويرها من خلال الغرافيك في فيلمه، لتُلهم إنسانًا في النصف الآخر من العالم ويقوم ببناء وتصميم هذه المدينة، وهنا قد يسبق الفن التوثيق، وهذه متعة الفن.
الفن بإمكانه أن يوثق حتى خيالات الفنانين، ويمنح الجمهور الفرصة في أن يعرف تطلعاتهم وتوقعاتهم عن العالم والمستقبل، فالعديد من الناس يعودون إلى أفلام الخيال العلمي، ليُشاهدوا كيف تخيل الفنان حياتهم في العام 2022 وكيف تبدو الحياة في الواقع في هذا الوقت، فأفلام الخيال العلمي قدمت العديد من التوقعات للهواتف المحمولة، والمكالمات المصورة، وحتى الهولوجرام وغيره من الابتكارات، دون أن يعرفوا أيا منها سيكون حقيقة في يوم من الأيام، وأي منها مازلنا نحلم بتحقيقه.