هل تسمع عن جورج ميلييه؟
في الواقع لن نتكلم عن ميلييس Georges Méliès الآن، ولكن عن فن وتاريخ السينما العالمية، الابتكار الحديث في نهاية القرن التاسع عشر، حيث جهاز السينماتوغراف الذي قدم أفلامًا قصيرة صامتة وكلها تسجيلية، وهذه حقيقة فن السينما في بدايته قبل أن يتحول إلى صناعة؛ أداة يمكنها أن تسجل صورًا متتابعة من حياة الناس اليومية، ويُمكن إعادة مشاهدتها في أماكن أخرى، وبشكل متتابع!
«يبدو ما سبق كتعريف إنساني جديد وبسيط، عن بداية فن السينما، وسنعتبره كذلك».
لم تكن السينما قادرة على حكي القصص، إلى أن أتى رواد السينما الأوائل متأثرين بالمسرح، والتقى ميلييه بالأخوة لوميير بباريس في أحد عروضهم، وطلب منهم شراء نسخة من هذا الاختراع، ولكنهم رفضوا مٌعللين بأن هذا الابتكار لا مستقبل تجاري له.
ذهب ميلييه إلى لندن وعاد ليصنع أول فيلمين ويقدم لأول مرة فن الخدع من خلال السينما، أو بشكل أدق محاولة حكي قصة أو حدث له “سيناريو” من خلال صورة السينما، والمذهل في الأمر هو أن هذا يحدث في العام 1896 أي بعد عام واحد من تقديم اختراع السينما إلى العالم. الخدع البصرية كانت لعبة ميلييه المُفضلة، لتأثره بالاستعراض المسرحي وتصميم الديكور ومنها أتى شغفه بحكي القصص بدلا من تصوير الحياة اليومية للبشر. «ولكن لم يعلم ميلييه أنه بصدد صدفة عجيبة، قد تغير مجرى السينما للأبد».
هيا نحكي قصتنا
في خريف العام 1896 كان جورج ميلييه يقوم بتصوير مشهدًا خارجيُا بسيطًا أمام في لقطة واسعة لدار الأوبرا حيث تمر عربات وراقصون أمام عدسات كاميرته، وإذ فجأة حصل عطل ما وتوقف شريط الفيلم عن الدوران لعدة لحظات، لحظات قليلة كانت كافية لقلب كل الموازين. قام ميلييه بإصلاح العطل واستكمل تصويره، ولم يكترث للعطل الذي حدث، ولكن حين عاد إلى معمله وبدأ في استعراض ما تم تصويره، كانت المفاجأة، حيث اكتشف ان السيارات الكبرى التي كانت تسير قد اختفت وحل محلها جنازة. هنا توقف ميلييه وبدأ بالتفكير بالسبب وهو تعطل الكاميرا للحظات، كانت كفيلة لتغيير المارة فيما يشبه السحر، حيث تبدلت السيارات والبشر، وبدا الأمر كأنه خدعة كُبرى، وهو ما أثر شغف ميلييه بالطبع، واكتشف معه أن بإمكان السينما أن تتحكم في الزمان والمكان، الشخصيات والخدع، وكل ما يمكن تخليه، وأصبح منهجه السينمائي هو التجريب والخدع والسرد.
اكتشاف ميلييه كان الشرارة الأولى لسلسلة متتالية من الأفلام ذات الخدع السينمائية المتنوعة، فيمكنه ببساطة أن يحول سيدة إلى صورة عفريت، أو إبريق للشاي، أو زهرية للورود الجميلة!
هيا نُبسط هذا الاكتشاف المذهل، تخيل أنك تمسك بكاميرا هاتفك وأمامك صديقك تصوره فيديو، ثم تضغط زر الإيقاف المؤقت Pause وتخبر صديقك أن يتحرك من أمام الكاميرا، ثم تستكمل التصوير والآن إذا شاهدت الفيديو ستجد أن صديقك اختفى منه
يبدو الأمر بسيطًا، صحيح؟
نعم، ولكنه لم يكن أبدًا بسيطًا حين اكتشفه ميليه، فلقد فتح المجال إلى اكتشاف إمكانية إيقاف وتشغيل آلة السينما، وهو ما حول مسار السينما من التوثيق والتتابع، إلى وجود ما يُسمى بـ “اللقطة” و “المشهد” و “المقطع”. ومن هنا بدأ المونتاج بصيغته البسيطة، وعرف العالم أنه ليس إلزاميًا استكمال شريط الفيلم حتى نهايته، بل يمكن تقطيعه، ويمكن إيقاف التصوير واستكماله، كما يمكن وضع فيلم فوق فيلم!
«هذا الاكتشاف حول أفلام ميلييه وجعل منها علامة فريدة في صناعة الأفلام»
الشرارة التي أطلقها اكتشاف ميلييه لم تكتفي بالخدع السينمائية وإنما امتدت إلى استشراف المستقبل، حيث عمل جورج ميلييه على أول سينما مُلونة في العالم، فـ ميلييه كان يعتقد أن الصورة يجب أن تنقل صورة الأزياء والديكورات وألوانها الغنية.
وهنا قدم ميلييه أمرًا مذهلاً!
حاول ميلييه تلوين أفلامه يدويًا، إطار بإطار ويمكن مشاهدة بعض أفلامه ملونة على اليوتيوب، عملية التلوين على مشقتها وصعوبة تنفيذها في ذلك الحين فتحت الباب، لتخليل السينما الملونة وفنون الفيديو وكل ما توصلنا له فيما بعد.
ولكن ميلييه سبقنا إليه!
ولكن يبقى أهم ما قدمه ميلييه إلى فن السينما، ليس الخدع أو التلوين أو حتى المونتاج، ولكن الرغبة في السرد وابتكار طرق جديدة للسرد من خلال السينما. حكى ميلييه القصص من خلال أفلامه، حيث الفراشات الطائرة والجنيات ورحلة الإنسان إلى القمر.
وفي العام 1902 قدم ميلييه فيلم (رحلة إلى القمر)، والذي كان علامة فارقة في صناعة السينما حيث اكتسح صالات العرض في العالم، حتى أنه تعرض للقرصنة في الولايات المتحدة وأصبح حديث العالم السينمائي، وقد كان يتكون فيلم من 30 مشهد وهو رقم ضخم جدًا في ذلك الوقت، وامتد الفيلم إلى أكثر من 13 دقيقة على الشاشة، وشهد هذا الفيلم العديد من الخدع السينمائية المذهلة. هذه الخدع السينمائية المذهلة في حينها، أسست لكل ما نحاول تنفيذه الآن من خلال التكنولوجيا، وهو الأمر المذهل الحقيقي، وهو استكمال لما قدمه ميلييه للسينما.
للمخرج والمنتج العالمي مارتين سكورسيزي رأي بخصوص جورج ميلييه:
“لقد اخترع كل شيء في السينما”
يعتقد السينيفيليون أن المونتاج هو أهم ابتكار في تاريخ السينما، حيث بإمكانك التحكم في الإيقاع وطريقة السرد ومدة الفيلم وطول اللقطات، كما تتحكم في الصورة النهائية لآداء الممثل، ولكن مهلًا كل ذلك قام به ميلييه مبكرًا، فقد قام بالتمثيل والإخراج والكتابة والمونتاج وتلوين الأفلام، وحتى بناء استوديو خاص به لصناعة أفلامه. ببساطة قام ميلييه بتقديم السينما غير التسجيلية للعالم، وطور من ثقافة الصورة بعد عام عام واحد فقط من ابتكار السينما، وأدخل المبتكرات والخدع التي نحاول الآن مجاراتها بالتكنولوجيا، ونحن ندين له بأنه ابتكر وطور من طرق السرد، فبدونه لكانت انتظرت السينما طويلًا قبل أن تكتشف أن بإمكانها أن تحكي قصة أو تخترع خدعة.
والآن هل تعرفون جورج ميلييه؟