صناعة الأفلام بين الملل والشغف

السينما فن الإمتاع

يتعلم صُناع الأفلام في عامهم الأول من دراسة السينما أنه لا يجب أن يشعر المشاهد بالملل أو الانفصال عن عالم الفيلم، يجب أن يتماهى معه ويشعر بالتشويق والإثارة من أجل مشاهدة الفيلم من أول لحظة وحتى نهايته، ومن أجل تحقيق هذا الإمتاع توجد العديد من الحيل السينمائية والتي تنظمها قواعد فنية.

وهنا يظهر التناقض الأول لصُناع الأفلام الشباب، ويدور سؤال:

كيف لنا أن نحقق الإمتاع والتشويق، وفي ذات الوقت نلتزم ببعض القواعد والحيل المتكررة على مر السنين في صناعة الأفلام؟ لماذا لا يجب أن نكسر تلك القواعد؟

حسنًا إجابة هذا السؤال ليست بسيطة، لأنها تحتاج إلى شرح جوانب نفسية وحسية تتعلق بهذا الفن ومدى تأثيره على المشاهد، من تشريح العين البشرية إلى طبيعة إدراكنا وتماهينا مع الشخصيات التي يقدمها الفيلم، وما يُحدثه ذلك من تأثير سيكولوجي على المشاهد، ولكننا لسنا بصدد ذلك في هذا المقال -سنتحدث عنه في مقالات لاحقة- فقط سنتناول إجابته بطريقة أكثر عمومية.

نعم، يُمكن أن يتم كسر القواعد في السينما.


قامت أغلب الفنون على التجريب، وتطورت بكسر القواعد وتقديم قواعد جديدة لأنواع جديدة من الفنون، وفي عالم السينما تعرفنا على القواعد والحيل من مشاهدة الأفلام القديمة وملاحظة الحيل التي ابتكرها صُناع الأفلام هؤلاء.

فيلم المواطن كين Citizen Kane

واحد من أهم أفلام التاريخ هو فيلم المواطن كين Citizen Kane والذي تم إنتاجه عام 1941 ليكون دُرة التاج لعدة سنوات بتقنياته المُبهرة -حينها- في التصوير والإخراج وعملية السرد السينمائي والسيناريو، الذي يُفاجئ الجمهور والنقاد بأن الفيلم يبدأ من نقطة النهاية في زمن الأحداث، بدلا من أسلوب البداية والوسط والنهاية (التمهيد – الذروة أو الصراع – النهاية) المستخدم في كل إنتاجات هوليوود الضخمة.

 يستخدم أساتذة فن السينما هذا الفيلم كمثال للقواعد والتقنيات الحديثة في التصوير على الرغم من إنتاجه في عام 1941 أي ما يزيد عن 80 عامًا، ولكنه قدم لأول مرة تقنيات فريدة لتوظيف الإضاءة دراميًا، وكذلك استخدام زوايا في خلق عُمق للصورة، لتكون لاعبة درامية لا مجرد وسيلة جمالية أو نقلية للأحداث.

فالفريد في تجارب أورسون ويلز مخرج الفيلم وبطله، أنها تجارب استخدمت التقنيات الفنية المتنوعة بطريقة درامية لسرد أحداث الفيلم، مُستخدمًا ما يُسمى بالرمزيات، ولعل وحدًا من أشهرها هو مشهد (الفطور) بين المواطن كين وزوجته، حيث تبتعد المسافة بينهما مع مرور الزمن في مشهد واحد مدته دقيقتين ونصف تقريبًا، لكنها تستخدم المونتاج والتصوير في خلق المسافة تدريجيًا وتمنحك الشعور بالزمن مع كل انتقال، ويُتوج المشهد في نهايته بحركة إنسيابية للكاميرا، كاشفة حجم اللقطة الواسعة للمائدة بينهما.

قد تتوقع أن مخرج هذا الفيلم رجل مُخضرم، له العديد من التجارب السينمائية حتى يقدم هذا الفيلم المدهش بتقنياته إلى السينما، ولكن ما لا تعلمه أنه كان الفيلم الأول للمخرج والممثل أورسون ويلز Orson Welles بعمر الـ 24 سنة من عمره فقط.

في حوار له عام 1960، تحدث أورسون ويلز عن فيلمه الأشهر في لقاء حواري، وعند سؤاله عن الفيلم وتقنياته وكيف قدمه إلى السينما في هذا السن الصغير، كانت إجابته أن إلهامه وثقته الشديدة كان منبعها هو “الجهل، الجهل المُطلق” فهو لم يكن يعرف أن هناك قواعدًا ليخرقها، وهو ما ينطبق أيضًا على مدير التصوير جريج تولاند Gregg Toland فكلاهما هاوٍ ولا يُتوقع منهما شيئًا.

فالبطل الحقيقي لهذا الفيلم هو كسر القواعد والابتكار القائم على المُخيلة فقط، وهو نفسه كان السبب في تحقيق النجاح الجماهيري للفيلم، على الرغم من آراء النقاد التي هاجمت الفيلم في بدايته.

الإمتاع في الأفلام

من التجربة الطويلة للسينما، يتحقق الإمتاع في الأفلام عندما يتحقق أحد مفهومين عند المشاهد وهما: 

  1. التعاطف الدرامي Dramatic Empathy وتعني إمكانية تخيل المشاهد لنفسه في موقف شخصيات الفيلم من خلال الأحداث أو من خلال صفاتهم ومبادئهم المتشابهة معه.
  2. المشاركة الوجدانية Dramatic Sympathy وتعني أن يشعر المشاهد من داخله بمشاركته المشاعر مع الشخصيات فيحزن لحزنهم ويفرح لفرحهم ويتخيل نفسه مكانهم لا مواقفهم فقط.

وهي أهداف أي صراع ناجح وجاذب للمشاهدين، على أن تتحقق حولها العديد من العوامل التي تجعل من ساحة الصراع -أحداث الفيلم- مترابطة ومنطقية، حتى لو كانت غير حقيقية أو واقعية، فالمنطقية التي نقصدها هي وجود وحدة للعالم بما يُخضع جميع أحداث وتفاصيل الفيلم لقواعده ومنطقه الخاص.

فالأفلام المُمتعة هي التي ينغمس المُشاهد في أحداثها دون أن تحيد عينه عن شاشة السينما قدر الإمكان، فنمط ألوانها مترابط، وطريقة الانتقال بين المشاهد مُتشابهة، وكذلك حجم الزوايا له منطقه، فأي حدث كاسر لقواعد العالم داخل الفيلم كفيل بتوتر علاقة المُشاهد به، وهو ما يعني خسارة تركيزه وهنا لا يتحقق مبدأ التماهي والإنغماس مع الأحداث أو الشخصيات.

سحر الإيقاع

ما سبق ذكره لا يمكن المحافظة عليه دون الإيقاع، وهناك العديد من التكنيكات المونتاجية التي تم ابتكارها على مدار تاريخ السينما للحفاظ على هذا الإيقاع، ومنها وسائل الانتقال المُتنوعة، مثل القطع والمزج، الإظلام والإظهار، وهنا لن نتحدث عن الوسائل نفسها ولكن عن أساليبها الجمالية، لخلق تلك الجمالية المُمتعة للمشاهد.

تخيل معي الآن، بطلة الفيلم تسمع خبر حكم الإعدام على ابنها والكاميرا تقترب من وجهها ببطء شديد حتى تتحول اللقطة من الحجم المتوسط M.S. إلى الحجم القريب جدًا Extreme Close Up على عينيها، كل هذا بالتوازي مع اختفاء صوت القاضي تدريجيًا ويحل محله موسيقى حادة من بعيد تتعالى تدريجيًا، ويحدث قطع في الصورة مع وصول الصوت إلى أعلى نقاطه، وننتقل إلى البطلة وهي تجري بجنون في أنحاء المحكمة مع الموسيقى فقط.

هنا حدثت الانتقالة عبر الموسيقى قبل أن تكون عبر الصورة، ومثلها العديد من التكنيكات الفنية المُتنوعة، مثل التناقض والتماثل في الصورة، وهي أن ننتقل إلى تكوينات بصرية متشابهة أو متناقضة حسب الحاجة الدرامية والجمالية للصورة، وكذلك استخدام الكلمات أو حتى الحالة المزاجية بين المشهد والمشهد.

ما يجب أن تعيه هو أن الإيقاع يعبر عن حالة الفيلم، بغض النظر عن تلك الحالة كانت سعيدة أو حزينة، فالإمتاع المقصود لا يعني السعادة أو البهجة، وإنما التماهي مع حالة الفيلم، والتشبع بمشاعره وهنا يتحقق الإمتاع الحقيقي للأفلام.

الملل وصُناع الأفلام

قد تعتقد أن صُناع الأفلام مستمتعون حقيقيون بالأفلام، ولكن ما لا تعرفه وما قد نخوض فيه مقالات أُخرى، هو أن السينمائيون قد تتوتر علاقتهم بالسينما حين يقوموا بدراستها وممارستها، فالمعرفة بالتقنيات والتفاصيل الفنية، قد تقف حاجزًا بينهم وبين الاستمتاع، فتتحول مشاهدتهم إلى عين الخبير الباحث عن التفاصيل الجيدة والأخطاء، وهنا يفقد جزءًا من تماهيه مع الأفلام، وأحيانًا يصيبه القلق والملل من أن استمرار علاقته المتوترة مع الأفلام، فيفقدون شغفهم بها الذي قادهم إلى ممارستها وحُبها.

ولكن الخبر الجيد، أن هذا قد لا يدوم طويلاً، ففي النهاية تنتصر القصة الجيدة والتفاصيل الفنية المُتفنة على العين الخبيرة، وتستحوذ على انتباهه وتُقدم له الإمتاع الفني والتماهي مع الأحداث والشخصيات وعالم الفيلم وموضوعه.

نراكم في مقالات قادمة لنتحدث عن التقنيات بشكل مُفصل من أجل أفلام بلا ملل حقيقي!

error: Content is protected !!
حقيبة الاستثمار0
حقيبتك فاضية.. اختار برامجك وأبدأ رحلتك السينمائية =)
0